الأبوين والطفل ( مدرسته الأولى )
يعتبر الأب أو الأم المعلم الأول و الأكثر أهمية في حياة الطفل، و
ربما لا يرى الكثير من الآباء و الأمهات أنفسهم كمعلمين و مثقفين لأبنائهم، و لكن
في الحقيقة هم يقدمون بشكل مباشر أو غير مباشر منهاجا دراسيا أساسيا و بعيد المدى
على صعيد البيت و الأسرة، إن الوالدين يعلمان الصغير كيف يثق بنفسه و بالناس ، و
كيف يعتمد على نفسه و محيطه و بيئته البشرية و المادية، و كيف يتعايش مع الظروف و
مستجداتها، و مجموع ذلك هو أساس كبير التأثير في مستقبل الطفل ككل و بمجمل علاقاته
الشخصية.
القضية أبعد حتى من سلوك و عملية تقليد سلوك رغم أن هذا على غاية
الأهمية ، و لكن الأمر أعمق من ذلك بكثير، فالوالدان لا يعلمان طفلهما رمي الكرة
على سبيل المثال بل ينقلان له أفكارا حول الرياضة و الرياضيين، و مبادئ حول ضرورة
الرياضة و ما تحمله من مضامين تشتمل على العدل و الإنصاف و التعاون و التنافس نحو
الأرقى و الأفضل بكل روح مرحة و نفس أبية و لكنها متفاعلة تؤثر و تتأثر بما حولها.
إن الوالدين اللذين يقرأان لأطفالهما يحثانهم على القراءة و
المطالعة أكثر بكثير من أولئك الذين يتوجهون بالأمر أو النصيحة للطفل على شكل:
" اذهب و اقرأ"، بينما الأب أو الأم أو كلاهما في هرج و صخب، و ربما كان
لعب الورق أو مشاهدة التلفاز يسيطر على تفكيرهما، كما أن الوالدين اللذين يشرحان
للطفل و يعلمانه هما يقومان بدور تعزيز تطور اللغة ، و يخدمان كنموذج مثالي و واضح
و صريح للأطفال، و يقدمان مقومات موضوعية لطرق حل المشاكل ، أما اللذين يبديان
انفجارات عدوانية و اهتياجية استجابة لحدث ما أو لإحباط بسيط أو فشل طفيف فإنهما
يمثلان نموذجا سلوكيا خاطئا تماما، و في علم النفس يصنف ذلك ضمن السلوكيات الزائفة.
إن عملية انتقال الثقافة بين الأجيال يصفها البعض على أنها نوع من
المغامرات الثقافية، و في ذلك بعض الصحة لأننا لا نعرف نتيجتها خلال تقديمها سواء
سلبا ، أو إيجابا ، فالوالدان خلال هذه العملية لا يقدمان فقط المعلومات و النصائح
و الأفكار و لكن أيضا ينقلان قيم أسرهما و ثقافاتهما، و الأطفال كطلاب في المنزل
يمكن أن يكونوا راغبين في تلقي ذلك، أو غير قاصدين لهذا التلقي ، أو مقاومين له.
يميل بعض أولياء الأمور لأن يكونوا جاهلين أو مستخفين بدورهما
الثقافي، مرجئين الأمر لمعلمي المدرسة لاحقا باعتبارهم مهنيين يعلمون و يعلّمون
أكثر و بشكل أفضل ، لقد شددت برامج
الثقافة في السنوات الأخيرة مدعومة بالفعاليات الإجتماعية و التربوية على أهمية المهارات
التعليمية للوالدين في أدوارهما الفعالة الطبيعية و في الميدان المعرفي كذلك، مع
ضرورة تقديم الدعم و التدريب الملائم لهما بحيث يتعلمان استخدام مواهبهما كمعلمين
لتطور اللغة في برامج الرضع و الأطفال الصغار، و حتى كمعالجين في عملية التدبير
السلوكي للأطفال الذين لديهم أنماط معينة من المعاناة السلوكية، و لا ننسى أن
دورهما كبير في مجالات أخرى كثيرة تشمل نفسيهما و أطفالهما.
من حق الأهل أن يشتكوا أنهم إنما يتلقون تحضيرا قليلا أو معدوما من
أجل هذه الأدوار الثقافية المركبة و هذه العملية التربوية الهائلة الأهمية، مع أن
هذه الأدوار لا تقل أهمية عن الوظائف الغذائية و الإقتصادية لأي أب أو أم ، و هنا
يلزم أن نصرح بضرورة أن يقوم المجتمع بأعبائه تجاه كل أفراده و أسره، إن معظم
الناس يعلمون كيف يمكن أن يكونوا آباء أو أمهات بدءا من تجاربهم و علاقاتهم مع
ذويهم، و من خلال العناية بالأشقاء الأصغر سنا فيما مضى، و لكن التبدلات
الإجتماعية و الثقافية و الحضارية قد جعلت هذه التجارب محدودة في عصرنا على الأقل
بالنسبة لشريحة لا يستهان بها من البشر، كما أن علينا أن نعترف أن هناك نماذج سيئة
للتكيف ، و حالات متضاربة يمكن أن يتم تعلمها من الوالدين و تنتقل عبر الأجيال
مثلما تنتقل الإيجابيات، إن أطفال شخص سيء على سبيل المثال سيكون لديهم معاناة من
نوع خاص على سبيل المثال إلا في حال تدخل ظروف و شروط أخرى تعدل الأمر نحو الأفضل -
بإذن الله -.
هناك مبادئ تضفي جمالا أكبر غلى عملية قيام الوالدين بدور المعلم
في تهذيب و تثقيف الطفل، فعلى الوالدين أن يساعدا طفلهما على تلقي الإعجاب و تقدير
قيمة التعلم من خلال نتائج سلوكه، و ذلك عبر تمييز السلوك الحسن و تقديم المكافآة
من أجله، و توضيح عدم الإستحسان للسلوك غير المقبول، كما يجب أن يفهما بوضوح الفرق
بين الإيلام و الإزعاج البسيط كعقوبة و بين الإنتقام الذي يؤذي الطفل بشدة، و أن
تكون العقوبة لتعليم الطفل قبل أن تكون لعقابه، إنهما بحاجة لمعرفة كيف يقاومان
استخدام القوة و السلطان لمجرد أنهما قوة و سلطان، فالهدف تثقيف و تهذيب و تنوير
للطفل قبل كل شيء.
على الوالدين مقاومة
الميل لإذلال الطفل و الحط من قدره حتى لو خالفت سلوكياته رغباتهما، و خصوصا أمام
أخوته و أمام الآخرين، و حل هذه الإشكالية يأتي بالحكمة و الخصوصية، كما أن عليهما
نقد و فهم تجارب طفولتهما الذاتية و تهذيب نفسيهما أولا ، و تمييز السلوك و المواقف
التي تمثل بقايا غير معقولة و غير واقعية مثل التوقعات المفرطة بمطالبها و
الإعتماد على الدكتاتورية و السلطة المستبدة المطلقة لتحقيق الإنضباط، أو الميل
للإنفجار و الغضب و استخدام أساليب تحط من قدر و معنويات الطفل و تذله استجابة
لتصرف معين، كما عليهما عدم الركون للتردد و عدم الإفراط بالعطف و الدلال فهذا
أيضا غير مناسب و غير ملائم لأنه يفقد التهذيب ثباته و متانته و انسجامه، و نقطة
أخرى هي النقاش الموضوعي المفيد بين الوالدين لتحقيق الإنسجام و التناغم بين
أفكارهما حتى لا تنعكس تناقضاتهما على ذريتهما.
لقد أدخلت بعض الأمم دروسا حول الأبوة و الأمومة لمناهج المدارس
حتى العالية منها ، و مهما كان التخصص فيها، و سيصبح مفيدا أكثر لو أعطينا أطفالنا
خلال سنوات المدرسة تجارب و خبرات تستند على العلم و المعرفة و العادات الإجتماعية
الفاضلة و الأخلاق الحميدة، و ذلك بخصوص العناية بالأطفال و الدور المستقبلي الذي
ينتظرهم، و العلم في الصغر كالنقش في الحجر.